top of page

العربة الخضراء

  • محمد عبدالتواب
  • Apr 21, 2016
  • 3 min read

أتذكر وأنا طفل لم يتخطي عمري التاسعة تلك العربة الخضراء بلونها الزاهي والتي كان يمتلكها أحد جيراننا حيث كانت تٌستخدم لنقل الركاب من خلال سائق يعمل لدي جارنا هذا, تلك العربة كانت قديمة جداً بلونها الأخضر الزاهي, ضخمة تعود إلي فترة الأربعينيات حيث كان لها حواف عريضة بارزة يمكنك الوقوف عليها طوال رحلة السفر, كنت أراقب جارنا هذا عندما تمر تلك العربة من ذلك الطريق الذي يقبع منزلنا علي حافته وتلك العربة مُحملة بالركاب من كل جانب بما فيها من الداخل والخارج أيضاً, كنت أراقب هؤلاء الركاب وهم واقفون علي تلك الحواف العريضة البارزة وفوق سقف العربة حتي أنني أعتقد أن عدد هؤلاء الركاب يتجاوز العشرون راكباً وأتعجب كيف كانت تسير تلك العربة المُتهالكة بكل هذا العدد الضخم من الركاب متناثرين ما بين باطنها وسقفها وأطرافها.

في يوم ما تواردت الأخبار بأن تلك العربة صاحبة اللون الأخضر الزاهي قد تسببت في حادث أليم حيث لم يستطع السائق آنذاك أن يتوقف بها فقفزت عالياً من فوق ذلك الجسر لتسقط في المياة ويموت معها الكثيرون من هؤلاء الركاب وتتناثر أجزائها كأنها قد قررت أن تنتحر فجأة بالرغم من صلابتها التي كنا نعلمها جيداً, عادت العربة الخضراء مٌحملةً هي وماتبقي منها علي عربة أخري وقد يأس مالكها بأن يصلحها لأنه تشائم منها بسبب موت العديد من ركابها أثناء ذلك الحادث أو ربما لإنفاقه الكثير من الأموال علي أهل الموتي.

تجمعنا نحن الأطفال في ذلك الوقت نتابع تلك العربة التي كنا نشاهدها كل يوم تمر علينا كأنها مثل السفينة الضخمة نُهلل لها وهي تنطلق ولا نري السائق بداخلها من كثرة الركاب في كل مكان ولكن نري يديه وهو يٌشير إلينا بالتحية ويطلق النفير المزعج كتحية لباقي أهل الشارع, تراصينا جميعاً وعيوننا يملئها الحزن علي العربة ونحن نودعها للمرة الأخيرة حيث وضُعت هي وما تبقي منها في مخزن في الجانب المٌقابل لمنزلنا لتبقي آسيرة بداخله تحمل حكاياتها وأسرارها للأبد داخل هذا المخزن, كانت لحظة حزينة ونحن نودعها الوداع الأخير ونتذكرها وهي تمرح علي الطريق كأنها سعيدة مُنطلقة بنشوة إبتساماتنا وضحكاتنا ورقصاتنا الطفولية إبتهاجاً لها, من الآن فصاعداً لن نراها مّرة أخري, سوف تُهمل للأبد ونتناسي كل شيء عنها ماعدا بعض الذكريات المُتناثرة بداخل أغوارنا نتذكرها أحياناً ونتناساها كثيراً, أحياناَ عندما أكون ماراً بذلك المخزن أتذكرها وأتذكر نفيرها القوي فالأيام تمر والكل قد لا يتذكرها بعد الآن, مر عام أو أكثر وبدأت الشائعات تنتشر ما بين همسات و أقاويل في الخفاء عن تلك العربة الخضراء, البعض يقول أنها مسكونة بأشباح من ماتوا بداخلها وأن نفيرها مازال يطلق صرخات الإستغاثة حتي الآن كأنها كل ليلة تُعيد ذلك المشهد المؤلم من جديد, كل ليلة كأنها أنشودة أو مسرحية وأبطالها أشباح من

ماتوا بداخلها.

آنذاك كنت أتسائل كيف هذا ولماذا يحدث هذا الآن بعد مرور كل هذا الوقت ؟!! الجميع ينكر ذلك ويتجنب الحديث عما يدور بداخل هذا المخزن المٌغلق من سنوات حتي أنني توجهت لجاري هذا أحاول أن أفهم ماذا يحدث داخل ذلك المخزن وماذا حدث لتلك العربة الخضراء هل هي تثتغيث من الوحدة والإهمال من الجميع لها بما فيهم نحن الأطفال, ربما رغبت تلك العربة أن تعبر عن وجودها بذلك النفير المزعج حتي تسترعي إنتباه الآخريين.

في ليلة ما وأنا في سبات عميق في تلك الغرفة التي تواجه ذلك المخزن الذي يحتوي علي بقايا العربة الخضراء فإذا بنفير العربة ينطلق مدوياً بصوت يشبه صوت الإستغاثة حتي أنني إستيقظت من سباتي هذا وأنا منزعجاً حيث نهضت وتلصصت بسمعي منتظراً هذا النفير مّرة أٌخري حتي فزعني مّرة أخري ثم مّرة ثالثة وأنا أكاد أموت فزعاً ورعباً من ذلك النفير حتي تخيلتها وهي تنطلق مُسرعة مٌحطمة باب ذلك المخزن لتطير في الهواء حتي أجدها أمام عيني بالقرب من فراشي هذا كما كانت هي في سابق عهدها بلونها الأخضر الزاهي وتلك الكشافات الدائرية بزجاجها السميك اللامع لترسل لي شعورها بأنني تخليت عنها مثل باقي من تخلوا عنها من قبل وتركوها وحيدة في ذلك المخزن.

لجأت إلي ذلك الغطاء الذي كنت قد قذفته بعيداً بقدمي أثناء نومي لكي أختبأ بداخل طياته ومازال النفير المُزعج ينطلق بين الحين والآخر حتي بزوغ الفجر, في تلك الليلة قد جافني النوم وأصبح عصياً علي جفوني وأستمريت عيناي محدقة نحو سقف الغرفة وأذناي علي أهبة الإستعداد لسماع أي صوت جديد صادر من ذلك المخزن.

في الصباح الباكر ذهبت مُسرعاً إلي جيراني هؤلاء وأخبرتهم بكل حدة وإنفعال أنها ليست شائعات بل حقيقة وقد سمعت ذلك النفير بكل وضوح في تلك الليلة, الكل صامت ولا يرغب في أن يتحدث في هذا الشأن ولكن بعد مرور عدة أيام وجدنا عربة ومالك العربة يفتح باب المخزن بعد كل تلك الفترة, فها نحن سوف نري العربة الخضراء مّرة أخري أو علي الأقل ما تبقي منها, كنا نتزاحم جميعاً لنشاهدها للمّرة الأخيرة وهي تغادر المكان للأبد, كنت أتمني أن أتلمس ذلك النفير المزعج لكي أمنحها ذلك الشعور بأنني أشعر بها وبمن يصرخون بداخلها, كنت أعلم أن تلك الفرقة المسرحية من الأشباح سوف يسدل الستار الآن عن تلك المسرحية للأبد, لن أسمعها من جديد, العربة تحمل بقايا العربة الخضراء ونحن نقف في وداعها لآخر مّرة ونتابع العربة وهي تسير وتختفي عن أنظارنا وهي تحمل العربة الخضراء لتمضي بنا الحياة وتبقي بعض ذكرياتها بداخلنا نحن اطفال الشارع


Comments


        رواية لعنة الجبل
         رواية بقايا رجل   

© 2023 by The Book Lover. Proudly created with Wix.com

  • Grey Facebook Icon
  • Grey Twitter Icon
  • Grey Google+ Icon
bottom of page